حَمَّامُ السَّمْرَةِ
تقرير: حُذيفة محيسن
كاتب وصحفي/غزَّة- فلسطين
في قلب مدينة غزة التي توهب للعالم الأمل، تحتضن أزقة حي الزيتون “حمام السَّمْرة الأثري” بتاريخه العريق وماضيه الذي يعود الى زمن العهد المملوكي، حيث ما تزال جدرانه القديمة، وسقفه الدائري، وأرضيته المرصفة بمداور رخامية مختلفة الأشكال والألوان، تقاوم جميعها بعنفوان وتفرض نفسها في وجه الحداثة والتغيرات المعمارية التي طرأت على المدينة خلال السنوات الخمسين الماضية.
في زقاق ضيق في الجهة الخلفية للحمام يعمل (أبو محمد) صباح كل يوم على إشعال النيران بأكوام من الحطب استعدادا لقدوم الزائرين الذين يجد بعضهم في مياهه الساخنة وبخاره المتصاعد فرصة للعلاج، بينما يهرب إليه البعض الآخر طلباً للاستجمام والراحة من ضيق الحصار وهموم الحياة، التي ألمَّت بمعظم السكان الغَزَّيين.
حمام السمرة أحد أهم المعالم المعمارية العثمانية في فلسطين. يقع في حي الزيتون في غزة، وهو الحمام الوحيد الباقي لغاية الآن في مدينة غزة، ويُعتبر أحد النماذج الرائعة للحمامات العثمانية في البلاد، حيث روعي في تخطيطه الانتقال التدريجي من الغرفة الساخنة، إلى الغرفة الدافئة، إلى الغرفة الباردة والتي سُقفت بقبة ذات فتحات مستديرة معشَّقة بالزجاج الملون يسمح لأشعة الشمس من النفاذ لإضاءة القاعة بضوء طبيعي يضفي على المكان رونقاً وجمالاً، هذا بالإضافة إلى الأرضية الجميلة التي رصفت بمداور رخامية ومربعات ومثلثات ذات ألوان متنوعة، وقد رُمَّم الحمام مؤخراً وأصبح أكثر جمالاً وروعة.
(سليم الرملاوي) 42 عاما، سمع كثيرا عن الفوائد التي يمنحها الاغتسال بحمام السمرة، فما كان منه سوى زيارته، يقول إن زيارته هي الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، وإنه شعر براحة كبيرة، ويعتقد أن ذلك النوع من الحمامات يختلف تماما عن حمامات الساونا الحديثة، كونه فرصة للعلاج الطبيعي وليست له أضرار. ويقول (أبو العلاء راضي) في الثلاثينيات من عمره أنه يزور الحمام مرة واحدة كل شهر بهدف الخروج من أجواء الحصار والهموم الاقتصادية التي تحيط بمعظم شباب غزة. وأوضح (على الشيخ) 24 عاما أنه قرأ عن الحمام في كتب التاريخ وسمع عنه أيضاً من الكثيرين من أصدقائه وهو ما دفعه لزيارته، مشيراً الى أنه فرصة للخروج من واقع الحصار الذي نعيشه في قطاع غزة.
السيد سليم الوزير (أبو عبد الله) مدير عام حمَّام السَّمْرة، يؤكد على المكانة التاريخية الكبيرة التي يحتلها الحمام بين الأماكن الأثرية العديدة الموجودة في مدينة غزة ، مشيراً إلى أن تاريخ إنشاء الحمام يعود إلى ما يقارب الألف عام، حيث تشير قطعة حجرية معلقة على أحد جدران الحمام أن إعادة انشائه، وتجديد بنائه، تم في عهد “العبد الفقير إلى الله سنجر بن عبد الله الأيوبي في العهد المملوكي عام 658هجري، وهو ما يثبت قدمه وتاريخه العريق، مضيفاً أن الحمام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صالة الاستراحة، وقسم آخر مخصص لتغيير الملابس والاستعداد للحمام، ويتمثل القسم الثالث في الحمام الساخن، حيث تقدر درجة السخونة ب 50 درجة مئوية، وينتقل الزائر إلى غرفة التدليك التي يعمل بها متخصص، موضحاً أن حمام السَّمْرة له فوائد صحية ونفسية عديدة، وقد قسم العمل فيه إلى فترتين: صباحية ومسائية، ويتم تلقي رسوم زهيدة من الزائرين مقابل جلوسهم لعدة ساعات.
وفى لقاء لنا مع السيد أسعد عاشور، مدير المتاحف بوزارة السياحة بغزة، أكد أن حمَّام السَّمرة، هو الحمَّام الوحيد المتبقي من بين عدة حمَّامات كانت موجودة سابقاً في قطاع غزة، مشيراً إلى أنه يعود الى زمن العهد المملوكي، وقد عمل فيه جماعة من السَّمرة، ثم
اشتروه فيما بعد حتى أصبح ملكا لهم وحمل اسمهم، مضيفاً بأن الحمام تنقلت ملكيته عبر التاريخ، حيث تملكه الآن عائلة (الوزير) بغزة، موضحاً أن فكرة الحمَّامات العامة نشأت في العالم الإسلامي بسبب صعوبة إنشائها في البيوت، حيث اندثرت معظمها باستثناء بعض الحمَّامات التي بقيت صامدة وحافظت على نفسها، مشيراً إلى أن الحمَّام تم ترميمه قبل عدة سنوات بدعم إحدى الجهات المانحة وبإشراف وزارة السياحة والآثار، مضيفاً إلى أن الوزارة تعمل بشكل مستمر على الاهتمام والمحافظة على الأماكن الأثرية ومحاولة إحيائها في الذاكرة الفلسطينية.
وبحسب دراسة جامعية حول “تاريخ الحمامات الشعبية في البلاد العربية” أعدها من الجزائر الباحث ادريس بن مصطفى، فقد أشار إلى أن إنشاء الحمامات الشعبية يعود إلى العصر الروماني في القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت الفكرة في إنشائها بسيطة للغاية، تقوم على مجموعة من الأحواض الصغيرة التي تحتوي على الماء البارد والساخن، وبعض دهانات المساج وبعض التدليك، وكانت مفتوحة أمام العامة صغارا وكبارا دون مقابل، وتواجدت حمّامات خاصة بالأباطرة مثل: نيرون، ودقلديانوس، وغيرهم، واتسمت بضخامتها إذ ضمّت في جنباتها مكتبات وملاعب وحدائق، فكانت بذلك تقوم بدور ترفيهي استجمامي إلى جانب دورها في عملية الاغتسال.
وتبعا لتلك الدراسة، فقد أشير الى أن الحمَّامات الشعبية أو العامة في البلاد العربية الإسلامية، ظهرت مع بداية العصر الإسلامي وتحديدا في مصر، إذ أنشأ عمرو بن العاص أول حمَّام عمومي بالفسطاط. وازدادت الحمَّامات ازدهارا وانتشارا بشكل خاص في العهد العثماني. ومن الحمامات المصرية التي لا تزال قائمة، حمام الملاطيلي، الواقع في حي باب الشعرية والذي يزيد تاريخ تشييده عن الخمسمائة وثمانين عاما، وحمام قلاوون، وحمام السلطان أينال، وحمام باب البحر. وباتساع رقعة الدولة الإسلامية وازدياد عدد المسلمين، ازدادت أعداد هذه الحمَّامات بشكل مذهل، فقد اشتهرت بلاد الأندلس بحماماتها الكثيرة وخاصة مدينة قرطبة، التي تجاوز عدد الحمامات فيها التسعمائة حمَّام، وكانت ملازمة لدور العبادة، وتقرن دوما بكلمة المسجد، فنجد ابن حيَّان يروي قائلا: إن عدد المساجد في قرطبة، في فترة ابن أبي عامر بلغ ألفا وستمائة مسجد، وبلغ عدد الحمامات تسعمائة حمام. وفي بلاد الشام، يقول عنها ابن بطوطة حين زيارته لها : “وأكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة، وينطبق الأمر ذاته على فلسطين ولبنان، ومن بين الحمامات الرائعة فيها حمام (القاضي القرمي) بطرابلس الشرق، و(حمام سمندور). ويذكر ابن جبير أنه كان بدمشق عند زيارته لها سنة 580هـ/1185م ما يقارب المائة حمام، ونحو أربعين دارا للوضوء يجري بها الماء. ومن أشهر هذه الحمامات، حمام نور الدين في محلة البزورية، الذي أنشئ في عهد نور الدين بن زنكي، المتوفي سنة سبعين وخمسمائة. ولا يزال الحمام موجودا حتى الآن، وقد رمّم وأصبح من المعالم السياحية السورية، هذا إلى جانب حمام التّوريزي الذي يعود بناؤه إلى العهد المملوكي. أمّا ما يعود منها إلى العهد العثماني، فهناك حمام فتحي، وحمام الرّفاعي. وفي مدينة حلب انتشرت الحمامات في معظم أحيائها، حتى بلغ عددها حسب بعض المؤرخين المائة وسبعة وسبعين حماما حسب ابن الشحنة، في كتابه “الدر المنتخب في تاريخ حلب” وكامل الغزّي في كتابه “نهر الذهب في تاريخ حلب”، ومن أشهر تلك الحمامات، حمام يلبغا الناصري الذي يعود بناؤه إلى بداية العصر المملوكي في حلب في منتصف القرن الثامن الهجري، الذي أهمل منذ مجيء المغول حتى نيابة الأمير المملوكي سيف الدين يلبغا الناصري، الذي قام بترميمه حوالي سنة 1417م ،فحمل اسمه منذ ذلك الوقت، ثم أعيدت عملية ترميمه سنة 1960م.