حوار مع…
د. سميح مسعود
حوار: لميس البرغوثي
“شعرتُ أَّنَّني بالبحث عن الجذور تعرفت على نفسي أكثر، وتأكد لي أنَّ لديَّ ما يكفي لكي أكون جذرا لأحد، يكفي لكي تتدفق عُصارة جذوري إلى أحفادي، لكي تنبت في فصول أيامهم، ويتعرفون بها على وطنهم بأرضه وإرثه التاريخي المتراكم عبر الزمن”.
عبارة تختزل مرحلة لعلها من أهم المراحل المتعددة في حياة د. سميح مسعود، وأحبَّها إلى وجدانه، وهي مرحلة البحث عن الجذور والتي سجلها في كتابه الذي صدر الجزء الثاني منه مؤخرا بعنوان “حيفا.. برقة، البحث عن الجذور“.
علاقة الفلسطيني بالمكان علاقة معقدة ذات طابع خاص ارتبطت بالزمان ارتباطا وثيقا، وشكَّل عام التهجير الذي عرف بعام النكبة محور هذه العلاقة. فكما يذكر د.جوني منصور:”إن عملية الانتقال من المكان الخاص بالفلسطيني (الوطن) في خضم حرب فُرضت عليه، إلى مكان آخر ليس فيه إلا الإقامة المؤقتة، ليست سوى نزْعٍ بالقوة للعلاقة مع المكان الأم (الأصل) ودفْعٍ لهذا الفلسطيني ليبني علاقة مع مكان آخر مفروض عليه لظروف خارجة عن إرادته. إن الفلسطيني صاحب المكان، أدرك بصورة عفوية وغير مُخطَّط لها أهمية أن يُبْقِي من المكان الذي انتُزع منه، شيئا ماديا يحضر في حياته التي يعيشها في مكان آخر”.
تعددت الأماكن في مسيرة حياته، ويبقى لحيفا مسقط رأسه وضع خاص، حُفرت ذكرياته فيها في وجدانه، وحافظ على مقتنيات أسرته التي تمثل جزءا من تراث الشعب الفلسطيني المادي، ونقلها معه من مكان إلى آخر إلى أن استقر معظمها في بيته في عمَّان، على أمل أن يتم إعادتها في يوم من الأيام إلى بيت العائلة في حيفا حيث كانت وحيث يجب أن تكون، ووثَّق هذه المقتنيات وجمعها في كتابه: “متحف الذاكرة الحيفاوية” لتكون متاحة للجميع. ولإيمانه بأهمية المقتنيات المادية التراثية ودورها في كشف جوانب عديدة من حياة الأفراد وسلوكهم ونمط حياتهم، عمد إلى اقتنائها من بلدان عدة تشكل حضارات مختلفة، وتمثل جزءا من التراث الإنساني، فتشكلت لديه مجموعة كبيرة من المقتنيات الخشبية والفضية والنحاسية والزجاجية والخزفية والحلي التقليدية والسجاد والنقود، ووثقها في كتابه “مقامات تراثية”.
د.سميح مسعود شاعر وكاتب وباحث من مواليد مدينة حيفا عام 1938، درس في مدرسة البُرج الحيفاوية حتى الثالث الابتدائي، ثم هاجر مع عائلته إلى برقة التي تنحدر منها عائلته. حصل في عام 1967 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بلغراد، وعمل مستشارا اقتصاديا في ثلاث مؤسسات إقليمية عربية. انتُخب في عام 1995 رئيسا للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين فرع الكويت. ويعمل حاليا مديرا للمركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط في مونتريال- كندا، ورئيسا للصالون الثقافي الأندلسي التابع للمركز نفسه. صدر له في مجال اختصاصه في الاقتصاد سبعة عشر كتابا باللغتين العربية والانجيلزية، أبرزها: الموسوعة الاقتصادية في جزءين، والأزمة المالية العالمية- نهاية الليبرالية المتوحشة.
الحوار معه في بيته (متحفه الخاص) الذي يضم مقتنيات تراثية تتعلق بالموروث الحضاري الفلسطيني عامة والحيفاوي خاصة تمحور حول الذاكرة الفردية التي هي جزء من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني والتي ينبغي الحفاظ عليها لترسيخ الرواية التاريخية الفلسطينية حول الأرض والوطن والهوية والتراث.
توثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني الفردي مهم لحفظ الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. نبدأ من حيفا مسقط رأسك التي هُجّرت منها عام النكبة … حدثنا عن حيفا التي عرفتها في ذلك الزمن، والوقائع التي شهدتها في عام التهجير وذكرياتك حولها.
حيفا مسقط رأسي، رحلت عنها قسراً يوم احتلالها، لكنها بقيت منقوشة في ذاكرتي، أسترجعها دوماً بشعري ونثري، أستحضر بها كل ما كان لي في طفولتي الباكرة، أتنقل فيها من مشهد إلى آخر، وقد سجَّلت الكثير منها في كتابي “حيفا بُرقة البحث عن الجذور” في جزئيه الأول والثاني، كتبتُ عن بيوتها الحجرية البيضاء وشوارعها وأزقتها وحاراتها ومدارسها ودكاكينها وبساتينها، وأجزاء أخرى كثيرة منها كما كانت عليه في أربعينيات القرن الماضي، كما رأيتها في مكانها بين البحر والكرمل.
أتذكر حتى الآن أهم وقائع عام التهجير، تفجير بناية بشير المغربي، وضجيج المدافع والانفجارات وأزيز الرصاص، وبراميل المتفجرات التى كانت تتدحرج من الهَدار على أحياء حيفا التحتا، على وادي الصليب وساحة الحناطير، وأتذكر أحداثا كثيرة من تلك الأيام مثل تفجير مصفاة حيفا، ونسف قطار حيفا – القاهرة السريع، وقطار حيفا – يافا، واستشهاد قائد حامية حيفا محمد حمد الحنيطي، ابن قرية أبوعلندا القريبة من عمَّان، بعد أن تمكن من قيادة المجاهدين في عدة معارك مهمة ، حقق فيها النصر تلو النصر، لكنه بسبب عدم توفر السلاح لم يتمكن من مواصلة القتال واستشهد مع كثير من رفاقه وهو يدافع عن عروبة حيفا، للأسف عدم توفر السلاح ساهم في سقوط حيفا، أذكر تلك الأيام العصيبة التي بدأت فيها حركة النزوح، بدأت تقفُر أحياء حيفا، تم الاستيلاء عليها تدريجياً، وتم الاستيلاء على مدرستي مدرسة البرج، لن أنسى ساعة إغلاق أبوابها، إنها ما زالت مغلقة حتى الآن تنتظرعودة طلابها.
برقة .. تلك القرية الفلسطينية المشرفة على سهول وروابي (سبسطية) كانت المكان الثاني الذي تشكَّل فيه وعيك بالأحداث التي مرت بها فلسطين، وبدأت فيها هوايتك في جمع المقتنيات الأثرية. ما أهم ملامح القرية الفلسطينية بشكل عام آنذاك وقرية برقة تحديدا؟ وما الذي حفظته من ذكريات المكان والأحداث فيها؟
بُرقة قريتي التي تنحدر منها جذور أمي وأبي العائلية، كتب عنها مصطفى مراد الدباغ في كتابه” بلادنا فلسطين” وبيَّن أن “منظرها من أجمل المناظر في الوطن الحبيب”، وهي تتميز بموقعها القريب من سبسطية القرية الأثرية التاريخية، وقد تمكنت مبكرا من التعرف على آثار هذه القرية المهمة، نتيجة زياراتي المتكررة لها، اهتممتُ مع أطفال تلك القرية بالتنقيب عن العملات الرومانية القديمة المدفونة في سهولها وهضابها، وتمكنتُ وأنا في الصف الرابع الابتدائي من تجميع أول خمسة قطع قديمة رومانية مسكوكة من النحاس، وثلاثة قطع أخرى مسكوكة من الفضة، وبسبب هذه القطع المعدودة تواصل اهتمامي بالنقود القديمة طوال عمري، كما تواصل اهتمامي بجمع المقتنيات الأثرية القديمة على اختلافها.
ذكرياتي عن بُرقة لا حدود لها، توقظ في نفسي أحاسيس الطفولة الباكرة التي تأبى النسيان، سجلتُ منها الكثير في كتابي السابق ذكره، أعدتُ فيه رسم المكان ببيوته وسهوله وهضابه وكل ما كان فيه في ذلك الزمن البعيد، ذكرتُ فيه أحداثا كثيرة تتصل بوالديّ وجدتي، وسجلتُ نبذة تعريفية عن بعض أساتذتي، وسردتُ أجزاء من ذكرياتي عن أبناء جيلي، حشدتهم في سطوري بصور كثيرة مختلطة ومتشابكة مع المكان .
اختصاصك العلمي في الاقتصاد، واهتمامك بدراسة النقود الإسلامية في كل العصورتجلّى بوضوح في موسوعتك الاقتصادية المهمة. نود إلقاء الضوء على أهم الموضوعات التي تناولتها الموسوعة وتحديدا فيما يتعلق بالنقود المعدنية ونقوشها في العصور الإسلامية. وكيف أفدتَ من هوايتك في جمع النقود المعدنية في دراستك العلمية؟
موسوعتي الاقتصادية صدرت عام 2008 في مجلدين ضمَّا أكثر من ألف صفحة، تُعنى بتعريف مجموعة كبيرة من المصطلحات العلمية في مختلف الشؤون الاقتصادية والتجارية والمالية والاستثمارية والمصرفية، بما في ذلك إعطاء نبذة تعريفية لمجموعة من الأعلام ممن أثْروا الفكر الاقتصادي، بما فيهم مشاهير العلماء والفلاسفة والكتاب العرب من القدماء، ممَّن تطرقوا في مؤلفاتهم للأمور الاقتصادية مثل: ابن خلدون وابن رشد والقاضي أبو يوسف وغيرهم، وقد أعطيتُ بالموسوعة أهمية خاصة للعملات المعدنية التراثية القديمة التي ظهرت عبر القرون الماضية، في حضارات سادت ثم بادت.
بدأت علاقتي معها في سنوات عمري الباكرة في قرية سبسطية كما أوضحت من قبل، وقد أفردتُ في مجالها مساحة واسعة للنقود الرومانية والبيزنطية والساسانية والأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية والسلجوقية، وكلها مسكوكة من النحاس والبرونز والفضة والذهب الخفيف، واهتممت في مجال تعريفها بإلقاء الضوء على أجزاء من التاريخ السياسي والمالي والاقتصادي للدول الخاصة بها، والسلالات الحاكمة في تلك الدول، بما في ذلك أسماء حكامها، وأسماء المدن التي ضُربت فيها.
تنشط عدد من المؤسسات الثقافية والوطنية إضافة إلى الجهود الفردية في جمع التاريخ الشفوي الفلسطيني من كبار السن الذي يكون غالبا أكثر صدقا ودلالة من التاريخ السياسي المكتوب. حدثنا عن تجربتك في هذا المجال، وما هو المطلوب لتجميع الجهود المبعثرة حول هذا الموضوع؟
هناك أهمية كبيرة لتوثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني، بما يتفق مع الرواية الشعبية، وذلك من خلال جمع الشهادات الحيَّة من صدور الرواة ممن تبقَّى من جيل النكبة وهم قلة، أي تدوين كل ما في صدورهم قبل أن تضيع مع مرور الزمن، تدوين ذكرياتهم عن الزمان والمكان، عن حياتهم الماضية في مدنهم وقُراهم ما قبل النكبة، وعن تفاصيل معاناة الحرب والمجازر واقتلاعهم من أرضهم، وعن آلام ومآسي تشردهم وتشتتهم، ومن الطبيعي أن لهذه الشهادات صدىً واسعاً يفوق صوت التاريخ السياسي المُفبْرك، لأنها أقرب للصدق والحقيقة من الرواية الرسمية.
يوجد لدينا القليل من هذه الشهادات المُدوَّنة حتى الآن، يوجد جهود فردية في هذا المجال من أهمها بالنسبة لي جهود الدكتور محمود يزبك والدكتور جوني منصور من الداخل الفلسطيني، ولا بد من وجود هيئة فلسطينية مستقلة تختص بهذا الجانب من أجل الخروج برواية تاريخية جماعية كاملة لما حدث قبل وخلال وبعد عام 1948، وآمل أن يخرج إلى حيز الوجود متحف للذاكرة الفلسطينية لكي يرعى هذا الجانب ويحفظ ما تبقى من ذاكرتنا الجمعية، وقد أعلن عن هذا المتحف منذ سنوات طويلة، ولا يوجد له أي حضور بعد، هناك فقط أخبار تُنشر عنه لا أكثر، ونحن أحوج ما نكون إليه، لجمع الشهادات الشفوية الحية، ومراجعتها وتحليلها ونشرها للرد على الروايات السائدة.
بالنسبة إلي تجربتي في مجال تدوين التاريخ الشفوي تتمثل بما سجلتُه في كتابي عن مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة، وهي مجرد تجربة محدودة، استحضرتُ فيها ذكريات عن بلادي لا تزال ذاكرتي تحتفظ بكثيرمنها حتى الآن.
من خلال إقامتك في كندا واطلاعك عن كثب على المجتمع الغربي. إلى أي مدى نجحنا كعرب وفلسطينيين في تثبيت الرواية التاريخية الفلسطينية، وفي إبراز هويتنا الحضارية وحماية تراثنا؟
للأسف لم ننجح كعرب وكفلسطينيين في تعريف كندا وغيرها من الدول الغربية بالقضية الفلسطينية، وبقضايانا العربية الأخرى التي تتزايد في الزمن الحاضر يوما بعد يوم، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود مؤسسات عربية فاعلة في المهجر قادرة على التعريف بقضايانا وإبراز هويتنا الحضارية.
كيف تنظر إلى قيمة ما ورثته عن أسرتك من مقتنيات تراثية، وما جمعته طوال حياتك؟
من حسن حظي أنني أحتفظ بمقتنيات مادية تراثية قديمة لوالديّ، تتنوع بين أغراض شخصية وأوانٍ وأدوات منزلية متصلة بحياة أسرتي في حيفا، تتكون من أوراق وصحف ومجلات وطوابع بريدية، وعملات معدنية وورقية، ومفاتيح ومصابيح ومقتنيات شخصية قديمة، تعودت على رؤيتها في بيتي عندما كنت طفلاً صغيراً، وقد تم نقلها من حيفا إلى بُرقة، ومنها نقلتها إلى عمَّان، وما زالت معي حتى الآن، وقد تم تصويرها وإظهارها بين دفتي كتاب لي يحمل عنوان “متحف الذاكرة الحيفاوية” أصدرته في عام 2014.
بفضل هذه المقتنيات القديمة ورثت عن والديّ حب تجميع المقتنيات التراثية، وتمكَّنت من اقتناء مجموعة كبيرة من المقتنيات التراثية التي جمعتها خلال السنين الماضية على مدار سنوات حياتي، وقد صوَّرتها أيضا وأصدرت كتابا عنها بعنوان “مقامات تراثية” في عام 2014 أيضا، فيه قطع كثيرة في مجال السجاد والفضيات والنحاسيات والزجاجيات والفخاريات والأثاث القديم والنقود المعدنية والورقية القديمة، تُبرز جوانب مهمة من التراث الإنساني والتراث العربي، وتُعرّف القراء على كثير من الأحداث التاريخية، والتقاليد والعادات والبيئات التي أنتجت تلك المقتنيات.
لكل قطعة من مقتنياتك الخاصة حكاية وقصة تحمل معاني معنوية تثبت هوية الفلسطيني، وتبرز علاقته بوطنه وتراثه. ولعل حكاية شباك غرفة نومك في منزلكم في حيفا إحداها. ما حكايته؟
تُضيء ذاكرتي بصور كثيرة من أيام الطفولة الباكرة، أجد واحدة منها بؤرة لاقطة لا تختفي أبداً تتسرب في أعماقي وتستوطن ثنايا الذاكرة موشومة بكثير من الأحزان، تتصل مخطوط فارسي من مقتنيات الدكتور سميح
بمرض شلل مفزع أصابني منذ ولادتي، أقعدني طيلة سنواتي الخمس الأولى، وبذل والدايّ تضحيات جسيمة طوال تلك السنوات، بمنحي الوقت الكافي عند الأطباء بالتنقل معي من طبيب إلى طبيب في مسقط رأسي حيفا وغيرها من المدن الأخرى. مضت بي الحياة طيلة مرضي في حمى أب رؤوف وأم رؤوم، عشتُ معهما في بيتنا بشارع الناصرة على حافة مدخل حيفا الشرقي، كان سريري في غرفة نومي تحت شباك عالٍ في الجهة الشمالية من البيت، كنتُ أقضي أغلب وقتي مستلقياً على السرير، كان النظر من الشباك يرفع من آماد خيالاتي، أحلّق من كوته (فتحته) في السماء أبعد وأبعد على امتداد مساحات واسعة شاسعة، كان يفتح أمام ناظري في الليل آفاقاً كثيرة تخترق زحمة النجوم، أجدُ فيها سعادة بالنظر إلى النجوم بكل ما فيها من غموض وعلامات استفهام…أحصيها نجمة نجمة، وأسميها بأسماء مني، وهذا أقصى ما كنت أفعله في تلك الأيام. هكذا عشتُ طيلة سنواتي الخمس الأولى مقعداً لا أستطيع المشي واللعب مع الأطفال، لا أجد عزاءً إلا في النظر إلى السماء من فتحة الشباك، وفي سماع أصوات الأطفال وهم يلعبون في الساحة المتاخمة لمنزلي بألعاب متكررة ومسلية كل يوم، كانت تأتيني أصواتهم بنغمة واحدة تتكرر عبر الشباك وتدفعني إلى التأثر العنيف بأوضاعي الصحية، وبعدم تدفق طاقة الحياة في عروقي كبقية الأطفال. كان الشباك بالنسبة لي أشبه ما يكون بخيط سحري رفيع يربطني بالعالم المحيط، أتحسسُ به جوانب من الحياة الطبيعية، وأكثر ما كان يثيرني منه، أصوات ومفردات أطفال الجيران، خاصة في أشْهُرِ الإجازات المدرسية الصيفية حيث كانت أصواتهم العالية تزداد بشكل صارخ يوماً بعد يوم، يملؤون بها الحارة من حولهم ضجيجاً وصخباً، كنت في تلك اللحظات أشعر بحالة من الحزن الزائد لأنني لا أستطيع مشاركتهم اللعب، وكيف لي أن أشاركهم وأنا من المقعدين أجرُّ ساقيّ جرَّاً، ولا أستطيع المشي.
وذات يوم تعاقد مستشفى حمزة في حيفا مع طبيب ألماني، خضعتُ لفترة علاج طويلة تحت إشرافه، دامت لعام كامل، ومن محاسن الصدف أن صحتي بدأت بالتحسن رويداً رويداً بعد انتهاء فترة العلاج، وما من كلمات تصف شعوري عندما بدأت المشي بشكل طبيعي. ومع الأيام، أخذت أخطو خطوات الأصحاء خطوة تلو أخرى، اتسعت خطواتي إلى دائرة أوسع من الخطوات، كشفت لي عن حقيقة كثير من المعاني الطبيعية الرحبة في حياة الأصحاء كنت أجهلها. .
شفائي من المرض لم يُبعدني عن شباك غرفة نومي، استمر طغيانه على مجرى أيامي، واصلت منه النظر بالعين المجردة في الأماسي الصافية للنجوم والكواكب والقمر، ومشاهدة انبلاج الفجر في كل صباح، وغروب الشمس عند الغسق. ومع اشتداد أحداث عام 48 أخذت أتابع مجريات تلك الأحداث الأليمة من نفس الشباك، بما فيها نزوح سكان الأحياء العربية القريبة، وعندما سقطت حيفا في 22 نيسان 1948، أغلقته بيديّ، وبعد لحظات خرجتُ مع والديّ من بيتنا، احتبست أنفاسي وأنا ألقي آخر نظرة عليه … ما زالت تلك اللحظة مسجلة في ذاكرتي كأحزن لحظة في شريط العمر، ارتطم فيها وعيي الطفولي بحقائق الشتات المريرة، فقدت كل شيء حولي عندما اتجهت سيارة اللوري (شاحنة صغيرة) التي تقلّني مع أسرتي بسرعة خارج شارع الناصرة، اندفعتُ مع قافلة شاحنات طويلة تنقل مئات النازحين إلى خارج حيفا.
فارقتُ حيفا وعمري عشر سنوات، كان ذلك في يوم مظلم تعذَّرت فيه الرؤيا، رحلتُ عنها قسراً، وتلاشت أيام طفولتي الهانئة، تحجَّرت أحلامي وتراكمت في نفسي حالة وجدانية مؤثرة من مآسي الهزيمة ترسخت في ظل غربة باكرة لصبي صغير… هكذا اكتشفتُ مبكراً جراح بؤس الهزيمة. ومرَّت السنون ثقيلة في منافي الشتات، وبعد ما يزيد عن نصف قرن، تمكَّنتُ من زيارة حيفا لأول مرة بعد رحيلي عنها، تمكنتُ من الوصول إلى بيتي دون مساعدة من أحد، دُرتُ ببصري حوله، انهارت قواي، فقدتُ وعيي للحظات، أفقتُ وعدتُ إلى ما اختزنته ذاكرتي من لحظات قديمة أغلق فيها أبي باب بيتنا وقت الرحيل، حملتُ تلك اللحظات أعواماً طويلة في ذاكرتي… أغلقه عندما كنت في العاشرة من عمري، وها أنا أزوره وعمري يناهز الستين وما زال مغلقاً، حملته وشماً في عيني طيلة السنوات الماضية، وما زلتُ أحمل مفاتيحه معي في مسارات التيه أنَّى ذهبت. غمرني الحزن عندما وجدته بيتاً للأشباح، كحال بيوت الأحياء العربية الأخرى، تهاوى منه طرف من جزئه الغربي، ونخرت السنون أحجار حيطانه، لا أثر فيه للحديقة، لا أشجار حوله ولا ورود ولا أغصان ملساء جديدة تبرعم مع بداية الربيع، ولا أحد في الجوار…كل البيوت مغلقة ومهجورة. وقفت مطولاً أمام منزل أسرتي، طاردتني الذكريات… أسترجعتُ ذكرى أيام مضت، وقفتُ أمام الجهة الشمالية من البيت، أمام شباك غرفة نومي، الذي منه أبصرتُ الدنيا…أوغلتُ في ذكرى أيام طفولتي الماضية. في تلك اللحظة، مرَّ شريط الذكريات أمام عيني … تذكرتُ ثلة من أبناء جيلي وهم يلهون أثناء مرضي في الساحة المجاورة ويسطرون على ترابها خطواتهم الأولى.
بعد ما يقرب من عشرين سنة من تلك الزيارة، زرت ُ بيت أسرتي ثانية في يوم من أيام آذار عام 2014، توجهتُ نحوه من وادي النسناس برفقة صديقي الفنان عبد عابدي الذي يتَّسع مرسمه في شارع الجبل للوحات كثيرة استوحاها من حيفا وتداعيات النكبة، توالتْ خطواتنا معاً باتجاه شارع العراق ومن ثم شارع الناصرة، سرعان ما وصلنا عمارة أبو حوا، وبعدها بأمتار محدودة وصلنا بيت أسرتي، وجدنا بابه مفتوحاً على مصراعيه…دخلته وغصَّة في القلب تًدميني، أعدتُ في تلك اللحظة تراكيب الأمس مترعاً بكل ما مضى، لمحتُ آثار أقدام أمي، وشممتُ رائحة قهوتها، وتخيلتُ ملاعقها وصحونها ومغارف قدرها، وسمعتُ رنين صوتها مع انزلاق الصدى، حتى أنني شعرت بعد تلك السنين أن رماد موقدها ما زال ساخناً.
أفقت من تخيلاتي على صوت صديقي عبد عابدي يخبرني من غرفة مجاورة عن انهيار جدارها من الجهة الشمالية، لحقتُ به ووجدته في غرفة نومي، وقفتُ أمام الجدار المهدوم، ثم تابعتُ النظر في كل أرجاء الغرفة، وفي لحظة وجدت “الضُّرْفة” اليمنى من شباك غرفة نومي ملقاة على الأرض، نفس الشباك الذي يحمل في ثناياه لحظات مهمة من طفولتي ومن ذكريات وعيي الأول بالحياة. حملت “ضرفة” الشباك بدون أدنى تردد وخرجت مع صديقي باتجاه مرسمه، غلَّفهُ لي كما تُغلف أجمل لوحاته الفنية، وفي اليوم التالي حملتهُ معي إلى عمَّان، ومنها سأنقله عبر المحيط إلى مونتريال… سأبقيه معي كخيط سحري رفيع يربطني بمسقط رأسي حيفا، يُفعمني بالسكينة، ويجعل القلب مليئاً بأمل العودة مهما طال الزمن.